كلمة نزار قباني


الكلمة التي أرسلها الشاعر نزار قبّاني وألقاها شربل بعيني بالنيابة عنه في الاحتفال الذي أقامته رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، بمناسبة منحه جائزة جبران العالمية التقديرية:

أيها الاصدقاء الأعزاء،
صوتكم العربي الجميل القادم من أستراليا، غسلني بماء الورد، وغطاني بشراشف الحبّ، وسقاني حليب القمر.
هل من المعقول أن يأخذ صوتكم شكل الناي، أو شكل الربابة، أو شكل شكل القصيدة؟
هل من المعقول أن يصبح صوتكم بمساحة الوطن، بجباله، ووديانه، ونجومه، وغيومه، وثلوجه، وعصافيره؟
وأنا كشاعر، أسمح لنفسي أن أقو إن الحبيبة التي نصنعها بقصائدنا.. هي أجمل من الحبيبة التي نصنعها بأصابعنا.. وإن الوطن الذي نرسمه على أوراقنا، هو أكثر فتنة من الوطن الذي نقرأ عنه في الجرائد، ونراه على شاشة التلفزيون..
كل حب عظيم، سواء كان حب الوطن، أو حب الحبيبة، بحاجة إلى مساحة حيوية للتنفس.. وبحاجة الى حد أدنى من القلق، والتوتر والانفعال. فلا شيء يقتل أشواقنا أكثر من الالتصاق بالأشياء التي نحبّها..
**
إنني لا أعطيكم دروساً في الحبّ، أو في الوطنية. ولكنني أحاول أن أكسر بعض الرومنسية التي حملناها معنا من يوم أن تركنا الأندلس.
كما أريد أن أؤكد لكم أن كبار المبدعين في العالم اخترعوا أوطانهم من وراء البحار.. غيمة غيمة.. شجرة شجرة.. موجة موجة.. سنبلة سنبلة.. شراعاً شراعا.. قصيدة قصيدة.
وليس العظيم جبران خليل جبران، سوى مبدع لبناني كبير، استطاع بنار موهبته أن يضيء ليل العالم، وأن يحمل شمس لبنان في عينيه، وغابات لبنان في حقائبه.. حتى صارت مساحة الفكر الجبراني أكبر من مساحة لبنان.
**
يأتي الوطن هذه المرة من أوستراليا.
يأتي الوطن من خارج الوطن.
يأتي من أيّ مكان يوجد فيه رجالٌ مبدعون، ولمّاحون، وقادرون على الخلق والابتكار.
وأنتم في أوستراليا، استطعتم أن تتحرروا من حالة البكاء على الأطلال، والجلوس على أضرحة الماضي.. لتعمّروا لبنان العربيّ مرة ثانية، على تراب هذه القارّة المترامية الأطراف.
**
ليس عندي أوهام حول التاريخ والجغرافيا.
فالتاريخ يكتبه الشجعان، والجغرافيا يصنعها الروّاد والمكتشفون.
وليس الشعر الجميل الذي كتبه اللبنانيون في مهاجرهم، سوى دليل على أن الانسان يحمل ناره الداخلية الى آخر الدنيا، وأن المنفى يمكن أن يتحوّل في كثير من الأحيان الى وردة.
**
.. وبعد فقد شرّفتني رابطة إحياء التراث العربي في أوستراليا باختياري لنيل جائزة جبران العالمية.
ولكم كان بودي أن أكون معكم، وأنتم تحتفلون هذه الليلة، بمنحي هذه الجائزة الثمينة، للا أن ظروفي الصحيّة لا تسمح لي بالسفر.
**
أيها الأحباء:
إنني كشاعر، أحسّ بمزيد من الكبرياء، حين يقترن إسمي باسم هذا المعلم العظيم، الذي تعلّمنا على يديه أوّل دروس الحداثة، وأول حرف من أبجدية الشعر.
لقد كنت أشعر دائماً أن جبران يراقب حركة أصابعي على الورق، ويحرّضني على أن أكون جديداً، وطازجاً، وانقلابياً في شعري، وفي فكري، وفي حياتي.
واليوم، وبعد خمسين عاماً على ممارسة الشعر، أشعر أن المعلّم جبران مبسوطٌ مني.. وراضٍ عن كل كلمة كتبتها. وهذه الشهادة هي عندي بألف شهادة.
فشكراً للأصدقاء في رابطة إحياء التراث العربي في أوستراليا، الذين هيّأوا لي هذا الموعد التاريخيّ مع جبران.
شكراً لهذا الموعد الرائع الذي سوف أذهب إليه على أجفاني.
لندن 20 أكتوبر 1993

نزار قباني
**